سكون حائر يلف المكان وتنهدات متقطعة تخرج من فاهيهما فقط
تريد احتضانه فتخجل من دقات قلبها ، فما تهم بالابتسام إلا وتسبقها عبراتها
يحس بها فينسى ما قد ألمَ به .. لكن جرأته تخونه كما خانتها
ينظر كل منهما إلى الآخر ويبحران في عيني بعضهما …
تتذكر كيف ربته وهو صغير لا يفارق راحتيها
كما وتتذكر كيف أخذ يمسك بالملعقة ويتناول طعامه لوحده
رغم الفوضى والأوساخ التي كان يحدثها إلا أنه كالسكر على قلبها
كيف لا وهي أول من رأته وهو يخطو خطواته الأولى
فكم من مرة لم تنم الليل فيها بسبب بكائه وتوجعه في أيام مرضه
تطعمه فيأبى .. تشربه الماء فيتقيأ .. تهز له بيديها فيتوجع
تبعده عن حضنها فيصيح ، وتحتار فيما تفعل له ، وتهم بالبكاء والصياح
مثلما يفعل…وتبقى على حالها إلى أن يتعب ويغفو
لكنَّ جفنيها لا يتعبان ولا يغفوان ، بل يظلان متيقظان لحركاته
لهمساته.. لهمهماته
فان كان هذا يحدثه في أيام مرضه فما بالك بالذي يحدثه في أيام دلاله ؟!!!
الكل يمضي : التعب .. البكاء والحزن ليمسح كيانها بمسحة قدسية
صحيح إنها كلمة تقال لكن بالنسبة لها فهي البشر والفرح وبداية الأمومة
فمنذ اللحظة تصير روحها متعلقة به أكثر فأكثر من السابق
ترنو وإياه إلى عالم آخر…
يكبر ويكبر، ويدخل المدرسة ليبدأ التعليم
أمّا هي فتمر بلحظات عصيبة تعيش معه أيامه الأولى من تقبل الأولاد له
ومشاجراته وإياهم حتى تعليمه وتقدمه للامتحانات
إنَّها تُعد من أصعب اللحظات في عمرها لتأتي الدقائق والساعات كأنها سنون !
فما ترى طيفه من بعيد إلا وتسبق نظراتها إليه ؛ تلفه وتحتضنه
وتطمئن عن حاله والذي صنع .. وما أحلاها من لحظات حينما يعلن لها
نشوة انتصاره أنه نجح أو سمع المديح من احد، وما أشدها من لحظات
سيما حينما تهدأ من روعه إن رسب!!..
أتدرون بالذي كانت تصنعه حينما تفشل محاولاتها المتعددة ليهدأ ؟!!
كانت تأخذه على تلة عربية يكثر بها الزيتون والتين والصّبار
وبخاصة بعد العصر ليهب النسيم العربي الأصيل الغائب داخلاً الجسم
مطهرا إياه من كل شائبة
حاولت نسيان هذا الدم العربي ؛ انه عربي !.. أجل.
هي تلة عربية تعشق الحب والعرض والإنتماء والجذور .. سيما ومكانها
يُسهل مرور النفحة المقدسة في روح كل إنسان عربي ؛إنها هي وسط الوطن
يقبع فيها الأحباء الذين غادروها وغادرونا ، ولم يعد يقبع فيها من هو
كل ابن لهذه الأرض .. يقبع فيها من هو النجم المغيب الساطع اللامع
كما ويقبع فيها بيت الرحمن الذي لن ينسياه أحفاده رغم شدة الزمن عليهم …
هو يكبر، وهي تجلس الساعات تهندس له مستقبله
لتربأ فوق التحديات الجديدة الغريبة .. لكن يبدو أن هندستها هذه لم تدم
طويلا فقد " خربش " الريح لها خرائطها ؛ خرائط الماضي والحاضر والمستقبل
وكثيراً ما داهمهما المغيب حينما لذَّت الهنيهات سعادة
وجاء الصبر ليجس محنتها
لقد قُطِّعت أشجار الزيتون .. حُرِّق التين ، ودمر الصبار على غير العادة .. اجل .
لم يكن السبب حرارة شديدة ، ولا هدير، ولا الريح العاتية التي عرفنا كيف
نواجهها ؛ وإنما مخالب إنسان لم تعرف قدسية ذاك المكان لأحبائه
نُبشت المقابر ، وتناثرت العظام .. وأزيحت آثار الجريمة الشنعاء
وليس هذا فحسب وإنما حولت بيت الرحمن إلى قمارة لعينة …
أتدرون ما قمتم به يا من تجرأتم على التلة ط§ظ„ط¹طھظٹظ‚ط© ؟!
إنكم قطعتم حياة ابنها الذي خنقتموه .. شللتموه وأمتموه جسما بلا روح !!!
اجل . صارت حالته كما ذكرت لأنكم حاولتم تمويهه عن رائحة
النسيم العربي الأصيل ؛ بحث عن الزيتون والتين فلم يجدهما
وبحث عن الصبار فصعق صعقة أخرى لأنه لم يجده هو الأخر
وجلس على الأرض فلم يتعثر نظره وتتكحل عيناه بلحود من سبقوا
فصاح صيحة هي تعد أخر ما قال حينما شاهد بيت ربه
أصبح كما أرادوا له أن يكون !
قال: ليتني كنت نسيا منسيا ولم أَرَى ما أراه ؟!…
وعندما لمحت تلك الأم ذاك المشهد في عيني ولدها احتضنته
لتكسر تلك القيود وتبكي على جبينه لتتحلل الخلايا الميتة ، ويحييها الرحمن
بعد جس نبض صبرها
فيقول لها ابنها بكلمات جليلة :
إنا باقون ما دامت أم مثلك وروح كروحك
لي طلب منك أُمي :
اذهبي لتلك التلة واحضري لي بعض ترابها
كلما أثقلتني القيود ؛ فمهما فعلوا فلن تتحلل جزيئياتها لتصبح مثلما شاءوا…
منقوووول