الشيخ سلمان العودة
الذي يقرأ في تاريخ الدعوات, و أسباب نجاحها أو فشلها يجد أن من أهم أسباب النجاح الذي تحرزه دعوة ما أحد أمرين:
1- الحق الذي تحمله هذه الدعوة , فبقدر ما فيها من الحق تكون ملائمة للفطرة, قريبة إلى العقل , و سرعان ما تتقبلها النفوس وتسكن إليها .
ولذلك لما سمع الجن كلام الله تعالى يقرؤه رسوله المصطفى -صلى الله عليه وسلم- رجعوا إلى قومهم يقولون : { إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءَانًا عَجَبًا . يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ } [الجن:1-2]،
بل تحولوا مباشرة إلى "منذرين" تتحرك في نفوسهم دوافع الإنذار و البيان والدعوة
{ وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْءَانَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ . قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ . يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَءَامِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيم } [الأحقاف:29-31]
وقد يتوفر لبعض أمم الكفر قدر من العدل وحفظ مقامات الحقوق البشرية مما هو في الأصل من مقاصد الشريعة؛ فيجعل الله لهم من التمكين والبقاء والنفوذ بقدر ذلك كما هو معروف في حقب التاريخ مشاهد من واقع الحياة.
2- و العامل الثاني من عوامل النجاح : ثقة الداعية بدعوته , وإيمانه الراسخ المطلق بأنها الحق الذي لا ريب فيه ..
فهنا يتحول إلى قدوة في قوله وفعله، يتحول إلى "إمام "
{ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } [السجدة:24].
و لا يملك قارئ هذه الآية الكريمة إلا أن يقف عند هذه الكلمات الأربع: (أئمة, يهدون, صبروا, يوقنون).
فلكي نكون دعاة صادقين و أئمة هادين مهديين, لا بد من الصبر على الدين, فلا تزحزحنا عنه أو عن بعض عقائده أو أحكامه استخفافات الذين لا يوقنون، و لا بد من اليقين المطلق الذي لا يقبل المراجعة أو الشك بأنه الحق.
ونحن هنا لا نتحدث عن الآراء الاجتهادية ولا عن وجهات النظر الشخصية التي قد يتحول الإيمان المطلق بها إلى نوع من التعصب والهوى والإصرار وبطر الحق وغمط الناس, لكننا نتحدث عن " الدين المنـزل ".
{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ } [إبراهيم:13]
وقال جل وعلا : { قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ . قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ } [الأعراف:88-89].
و كما يظهر اليقين في أقوالنا, فلا نداور ولا نداهن ولا نماري, و لا يعنينا ما يقوله عنا الآخرون, فنعطيهم إياها صريحة.. إن هذا الدين دين الله, لا يقبل سواه { ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين } ، و نعلنها لهم واضحة: كفرنا بكم، وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدًا حتى تؤمنوا بالله وحده.
فكذلك يجب أن يظهر اليقين في أعمالنا وسلوكنا و أساليب حياتنا … من يحمل الدين الصحيح و يثق بما لديه لا يذهب ليأخذ ما يسقط من موائد الآخرين.
ليس صحيحًا أن تكون مجتمعاتنا و بيوتنا و مدارسنا وأسواقنا و شاشاتنا ميدانًا استهلاكياً للمنافسة و السباق على بضاعتهم الكاسدة.
وبتجربة عملية يظهر أن الشاب أو الفتاة الذي يعيش الإسلام واقعًا عمليًا بين ظهراني المشركين – و قد اضطر للإقامة بينهم – أجدى على الإسلام من مائة خطيب و متحدث.. يدعو إلى الإسلام بأقواله, ويحذر منه بأعماله.
في مدينة ( لورنس ) في الولايات المتحدة الأمريكية التقينا مسلمًا أمريكيًا أبيض, أسلم من سبع سنوات, و أثنى المسلمون خيرًا على خلقه وسلوكه ونشاطه في الدعوة إلى الله, وهو أستاذ في الجامعة.
سألنا عن سبب إسلامه.. ولقد كانت فرحتنا كبيرة حين وجدنا في قصته شاهدًا عمليًا ماثلاً للعيان لما كنا نقوله للدعاة من ضرورة الاعتزاز بالإسلام في تلك المجتمعات ( عقيدةً وسلوكًا وأحكامًا) و ألا نتنازل عن شيء من أجلهم؛ حتى يكون سلوكنا و منهج حياتنا "يصرخ" في وجوههم.. يدعوهم إلى التأمل والمراجعة وإعادة النظر.
كان هذا الرجل قد فقد الثقة بنصرانيته المحرفة الممسوخة المنسوخة, و بدأ رحلة شاقة في البحث عن الدين الحق..، و بحث في ديانات كثيرة فلم يجد فيها غناء, لكنه لم يفكر لحظة في دراسة الإسلام, فقد أسقطه من حسابه منذ البداية بسبب الصورة المشوهة التي رسمتها في عقله أجهزة الإعلام وشعوب الإسلام!.
ذات يوم رأى فتاة مسلمة تدرس في الجامعة ملتزمة بحجابها, تتحدى به أمواج التفسخ والتعري والانحلال .. ريحانة في وسط النتن!.
و سأل فعلم أنها مسلمة, و أن الإسلام يأمر بالتستر و التصون و حفظ الجسد عن العيون النهمة و النظرات الجائعة، فكان يقول: انطباعي السابق أن الإسلام يمتهن المرأة ويحتقر شخصيتها؛ لكنني أمام امرأة بلغ اعتزازها مداه حتى استطاعت أن تتميز بملابسها وهيئتها عن جميع أفراد ذلك المجتمع.. غير أنها تعيش في قلبه… إذًا فما تلقنتُه عن الإسلام و موقفه من المرأة غير صحيح!.
و هكذا كانت تلك " الصدمة " سببًا في إفاقته، ثم قادته أخيرًا إلى الإسلام.
و قد اقترن هذا المسلم بالفتاة نفسها التي رآها وأسلم بسببها!.
حتى المقصرون والمفرطون يستطيعون بالبقية الباقية لديهم من أخلاق الإسلام أن يدعوا الناس إليه.
ومن طرائف هذا الباب أن فتاة عربية مسلمة غير ملتزمة تقيم في كندا, وتعرفت على شاب كندي نصراني, فطلب منها الزواج فرفضت لأنه غير مسلم.
فسأل عن الإسلام فأعطته معلومات يسيرة, ولم تكترث بالأمر – و الله أعلم – لكنه واصل, و ذهب إلى بعض المراكز الإسلامية و بدأ يقرأ بنهم حتى اقتنع بالإسلام وامتلأ قلبه به, و ظهر على جوارحه وسلوكه, فأعفى لحيته, و بدأ يحافظ على الجماعة, ويقوم الليل…، ثم جاء لصاحبته يطلب يدها؛ فرفضت وقالت: أنت أصبحت الآن متطرفًا!!.
لكنه لم يلتفت إليها.
لماذا نخجل من ديننا؟!.
بل لماذا نخجل حتى من عاداتنا التي لا خطأ فيها فنرغب عنها شعورًا بالهزيمة، وتفوق الآخرين؟!.
إن هزيمتنا في معركة عسكرية يمكن أن تستبدل بنصر مظفر في معركة تالية، لكن الهزيمة التي لا نصر بعدها هي الهزيمة الداخلية.. الهزيمة الروحية.