الفصل الاول
في معنى الحيض وحكمته
الحيض لغة : سيلان الشيء وجريانه.
وفي الشرع : دم يحدث للأنثي بمقتضى الطبيعة ، بدون سبب ، في أوقات معلومة .
فهو دم طبيعي ليس له سبب من مرض أو جرح أو سقوط أو ولادة . وبما أنه دم طبيعي فإنه يختلف بحسب حال الأنثى وبيئتها وجوِّها ، ولذلك تختلف فيه النساء اختلافا متبايناً ظاهراً .
والحكمة فيه أنه لما كان الجنين في بطن أمه لا يمكن أن يتغذى بما يتغذى به من كان خارج البطن ، ولا يمكن لأرحم الخلق به أن يوصل إليه شيء من الغذاء ، حينئذٍ جعل الله تعالى في الأنثى إفرازات دموية يتغذى بها الجنين في بطن أمه بدون حاجة إلى أكل وهضم تنفذ إلى جسمه من طريق السرة حيث يتخلل الدم عروقه فيتغذى به ، فتبارك الله أحسن الخالقين . فهذه هي الحكمة من هذا الحيض ، ولذلك إذا حملت المرأة انقطع الحيض عنها ، فلا تحيض إلا نادراً ، وكذلك المراضع يقلُّ من تحيضُ منهن لا سيما في أول زمن الإرضاع.
***
الفصل الثاني
في زمن الحيض ومدته
الكلام في هذا الفصل في مقامين :
المقام الأول : في السن الذي يتأتي فيه الحيض .
المقام الثاني : في مدة الحيض.
فأما المقام الأول : فالسن الذي يغلب فيه الحيض هو ما بين اثنتي عشرة سنة إلى خمسين سنة ، وربما حاضت الأنثى قبل ذلك أو بعده بحسب حالها وبيئتها وجوها .
وقد اختلف العلماء رحمهم الله : هل للسن الذي يتأتي فيه الحيض حد معين بحيث لا تحيض الأنثى قبله ولا بعده ؟ وأن ما يأتيها قبله أو بعده هو دم فساد لا حيض؟ اختلف العلماء في ذلك . قال الدارمي بعد أن ذَكَرَ الاختلاف : كل هذا عندي خطأ ؛ لأن المرجع في جميع ذلك إلى الوجود ، فأي قدر وجد في أي حال وسن وجب جعله حيضاً . والله أعلم (1) .
وهذا الذي قاله الدارمي هو الصواب ، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيميه ، فمتي رأت الأنثى الحيض فهي حائض وإن كانت دون تسع سنين أو فوق خمسين سنة ، وذلك لأن أحكام الحيض علقها الله ورسوله على وجوده ، ولم يحدد الله ورسوله لذلك سناً معينة، فوجب الرجوع فيه إلى الوجود الذي عُلقت الأحكام عليه ، وتحديده بسن معين يحتاج إلى دليل من الكتاب والسنة ولا دليل في ذلك .
وأما المقام الثاني : وهو مدة الحيض أي مقدار زمنه .
فقد اختلف فيه العلماء اختلافاً كثيراً على نحو ستة أقوال أو سبعة . قال ابن المنذر : وقالت طائفة: ( ليس لأقل الحيض ولا لأكثره حد بالأيام ) . قلت: وهذا القول كقول الدارمي السابق وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيميه،وهو الصواب لأنه يدل عليه الكتاب والسنة والاعتبار .
فالدليل الأول : قوله تعالي : {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ } [(البقرة: من الآية222).] . فجعل الله غاية المنع هي الطهر ، ولم يجعل الغاية مضي يوم وليلة ولا ثلاثة أيام ولا خمسة عشر يوماً ، فدل هذا على أن علة الحكم هي الحيض وجوداً وعدماً ، فمتى وجد الحيض ثبت الحكم ، ومتى طهرت منه زالت أحكامه .
الدليل الثاني : ما ثبت في صحيح مسلم (2) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة وقد حاضت وهي محرمة بالعمرة : ( افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري ) . قالت : فلما كان يوم النحر طهرت .( الحديث) . وفي صحيح البخاري (3) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها : ( انتظري فإن طهرت فأخرجي إلى التنعيم ) . فجعل النبي صلى الله عليه وسلم غاية المنع الطهر ولم يجعل الغاية زمناً معيناً ، فدل هذا على أن الحكم يتعلق بالحيض وجوداً وعدماً .
الدليل الثالث: أن هذه التقديرات والتفصيلات التي ذكرها من ذكرها من الفقهاء في هذه المسألة ليست موجودة في كتاب الله تعالي ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أن الحاجة بل الضرورة داعية إلى بيانها ، فإن كانت مما يجب على العباد فهمه والتعبد لله به لبينها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بياناً ظاهراً لكل أحد ، لأهمية الأحكام المترتبة على ذلك من الصلاة والصيام والنكاح والطلاق والإرث وغيرها من الأحكام ، كما بين الله ورسوله عدد الصلوات وأوقاتها وركوعها وسجودها ، و الزكاة : أموالها وأنصباءها ومقدارها ومصرفها ، والصيام : مدته وزمنه، والحج وما دون ذلك ، حتى آداب الأكل والشرب والنوم والجماع والجلوس ودخول البيت والخروج منه وآداب قضاء الحاجة ، حتى عدد مسحات الاستجمار إلى غير ذلك من دقيق الأمور وجليلها ، مما أكمل الله به الدين ، وأتم به النعمة على المؤمنين ، كما قال تعالى: { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: من الآية89] وقال تعالى: {مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْء} [يوسف: من الآية111] .
فلما لم توجد هذه التقديرات والتفصيلات في كتاب الله تعالي ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم تبين أن لا تعويل عليها ، وإنما التعويل على مسمي الحيض الذي علقت عليه الأحكام الشرعية وجوداً وعدماً . وهذا الدليل ـ أعني أن عدم ذكر الحكم في الكتاب والسنة ، دليل على عدم اعتباره ـ ينفعك في هذه المسألة وغيرها من مسائل العلم ؛ لأن الأحكام الشرعية لا تثبت إلا بدليل من الشرع من كتاب الله ، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، أو إجماع معلوم ، أو قياس صحيح . قال شيخ الإسلام ابن تيميه في قاعدة له : ( ومن ذلك اسم الحيض علق الله به أحكاماً متعددة في الكتاب والسنة ، ولم يقدر لا اقله ولا أكثره ، ولا الطهر بين الحيضتين مع عموم بلوى الأمة بذلك واحتياجهم إليه ، واللغة لا تفرغ بين قدر وقدر، فمن قدر في ذلك حداً فقد خالف الكتاب والسنة ). انتهي كلامه (4) .
الدليل الرابع : الاعتبار . أي القياس ُ الصحيح المطرد ، وذلك أن الله تعالي علل الحيض بكونه أذى، فمتي وجد الحيض فالأذى موجود، لا فرق بين اليوم الثاني واليوم الأول ، ولا بين اليوم الرابع واليوم الثالث، ولا فرق بين اليوم السادس عشر والخامس عشر ، ولا بين الثامن عشر والسابع عشر ، فالحيض هو الحيض ، والأذى هو الأذى .
فالعلة موجودة في اليومين على حد سواء ، فكيف يصح التفريق في الحكم بين اليومين مع تساويهما في العلة ؟! أليس هذا خلاف القياس الصحيح ؟! أو ليس القياس الصحيح تساوى اليومين في الحكم لتساويهما في العلة ؟ ! .
الدليل الخامس: اختلاف أقوال المحددين واضطرابها ، فإن ذلك يدل على أن ليس في المسألة دليل يجُب المصير إليه ، وإنما هي أحكام اجتهادية مُعرضة ٌ للخطأ والصواب ، ليس أحدهما أولى بالنزاع من الآخر ، والمرجع عند النزاع إلى كتاب الله والسُنة .
فإذا تبين قوة القول أنه لا حد لأقل الحيض أو لأكثره وانه القول الراجح ، فاعلم أن كل ما رأته المرأة من دم طبيعي ليس له سبب من جرح أو نحوه فهو دم الحيض من غير تقدير بزمن أو سن إلا أن يكون مستمراً على المرأة لا ينقطع أبداً أو ينقطع مدة يسيرة كاليوم واليومين في الشهر ، فيكون استحاضة ، وسيأتي إن شاء الله تعالي بيان ط§ظ„ط§ط³طھطط§ط¶ط© وأحكامها.
قال شيخ الإسلام ابن تيميه: ( والأصل كل ما يخرج من الرحم انه حيض، حتى يقوم دليل على انه استحاضة ) (5). وقال أيضاً ( فما وقع من دم فهو حيض، إذ لم يعلم انه دم عرق أو جرح ) .ا هـ (6) .
وهذا القول كما انه هو الراجح من حيث الدليل ، فهو أيضاً أقرب فهماً وإدراكاً وأيسر عملاً وتطبيقاً ، مما ذكره المحددون ، وما كان كذلك فهو أولي بالقول لموافقته لروح الدين الإسلامي وقاعدته ، وهي اليسر والسهولة . قال الله تعالي : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } [الحج: من الآية78]. وقال صلى الله عليه وسلم: ( إن الدين يسر ، ولن يشادَّ الدين أحد إلا غلبه ، فسددوا وقاربوا وابشروا ) رواه البخاري (7) .وكان من أخلاقه صلى الله عليه وسلم أنه ما خير بين أمرين إلا أختار أيسرهما ما لم يكن إثما (8).
حيض الحامل
الغالب الكثير أن الأنثى إذا حملت انقطع الدم عنها ،قال الإمام أحمد رحمه الله: ( إنما تعرف النساء الحمل بإنقطاع الدم ). فإذا رأت الحامل الدم فإن كان قبل الوضع بزمن يسير كاليومين أو الثلاثة ومعه طلق فهو نفاس ، وإن كان قبل الوضع بزمن كثير أو قبل الوضع بزمن يسير لكن ليس معه طلق فليس بنفاس ، لكن هل يكون حيضاً تثبت له أحكام الحيض أو يكون دم فساد لا يحكم له بأحكام الحيض ؟ في هذا خلاف بين أهل العلم .
والصواب أنه حيض إذا كان على الوجه المعتاد في حيضها ؛ لأن الأصل فيما يصيب المرأة من الدم أنه حيض، إذا لم يكن له سبب يمنع من كونه حيضاً ، وليس في الكتاب والسنة ما يمنع حيض الحامل .
وهذا هو مذهب مالك والشافعي ، واختيار شيخ الإسلام ابن تيميه ، قال في الاختيارات ص ( 30) وحكاه البيهقي رواية عن أحمد ، بل حكي أنه رجع إليه ا. هـ . وعلى هذا فيثبت لحيض الحامل ما يثبت لحيض غير الحامل إلا في مسألتين :
المسألة الأولي : الطلاق، فيحرم طلاق من تلزمها عدة حال الحيض غير الحامل ، ولا يحرم في الحامل ، لأن الطلاق في الحيض غير الحامل مخالف لقوله تعالي : { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } [الطلاق: من الآية1] . أما طلاق الحامل حال الحيض فلا يخالفه ، لأن من طلق الحامل فقد طلقها لعدتها ، سواء كانت حائضاً أم طاهراً ، لأن عدتها بالحمل ، ولذلك لا يحرم عليه طلاقها بعد الجماع بخلاف غيرها .
المسألة الثانية : أن حيض الحامل لا تنقضي به عدة بخلاف حيض غيرها ؛ لأن عدة الحامل لا تنقضي إلا بوضع الحمل ، سواءٌ كانت تحيض أم لا ، لقوله تعالى : { وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } [الطلاق: من الآية4] .
*** [/align]
يتبع …..[/align]